دبي، الإمارات العربية المتحدة – قبل ظهور أصباغ الأكريليك ومواد التلوين المستقرة كيميائيًا، اعتمد الفنانون لقرون على الطبيعة كمصدر أساسي للألوان. ورغم شيوع استخدام المعادن والحشرات، كشفت دراسة عالمية موسعة عن الدور المحوري للزهور في توفير مجموعة فريدة ونادرة من الصبغات الحيوية التي، على الرغم من هشاشتها وقابليتها للبهتان، شكلت لغة بصرية غنية في المخطوطات واللوحات الدينية والفنون الاحتفالية عبر قارات العالم القديم. تُظهر هذه الممارسة الفنية أن الرسم بالأزهار كان “رقصًا مع الزوال”، يتطلب صبرًا وإدراكًا عميقًا لدور الزمن والضوء في تشكيل العمل الفني.
التفرد والهشاشة: جوهر صبغات الأزهار
تختلف صبغات الأزهار جذريًا عن نظيراتها المعدنية مثل الأزوريت أو المغرة. تستمد الألوان الزهرية بمعظمها من مركبات عضوية حساسة للغاية للضوء والأكسجين وتغيرات الحموضة، مثل الأنثوسيانين والفلافونويدات. هذا النمط من الألوان، على عكس الأصباغ المستقرة، يبهت أو يتحول مع مرور الوقت، مما يجبر الفنانين على النظر إلى أعمالهم الفنية ككيانات حية تتطور وتتحول بدلاً من كونها أشياء ثابتة.
وعادة ما كانت هذه الأصباغ تستخدم في الوسائط المائية، مثل الأحبار المضافة إلى الصمغ العربي أو صفار البيض (التمبرا)، لتثبيت الجزيئات الملونة، لكن بدون ضمان ديمومة اللون. يوضح هذا التفضيل أن الألوان الزهرية لم تكن تهدف إلى البقاء الأبدي، بل إلى التعبير عن لحظة بصرية شفافة وحساسة.
رحلة اللون: الزهور في الحضارات الكبرى
تتبع الدراسة مسار استخدام الزهور في الرسم عبر الحضارات الرئيسية:
أولاً: العالم القديم والرمزية المقدسة: في مصر القديمة، لم تكن زهرة النيلوفر الأزرق مجرد مصدر لصبغة بنفسجية ناعمة للجداريات، بل كانت تحمل دلالات روحية مرتبطة بالبعث والحياة الإلهية. وفي جنوب آسيا، كانت أزهار بالاش (شعلة الغابة) توفر لونًا برتقاليًا ساطعًا يماثل أردية الزهاد والنار المقدسة، مما يعزز الارتباط الروحي للوحة. كما استخدمت حضارات أمريكا الوسطى صبغات زهرية، حيث كان لمعان اللون وربطه بالموسيقى والحقيقة أهم من ديمومته، وكانت اللوحات تُجدد بانتظام لتعكس ارتباطها بدورات الحياة الطبيعية.
ثانيًا: شرق آسيا وجمالية الزوال: في الصين واليابان وكوريا، حيث سادت أحبار الحجر والأصباغ المعدنية، استُخدمت الزهور لإضفاء ألوان خفيفة ورقيقة تتناسب مع الجماليات الأدبية. كانت زهرة العصفر (Carthamus tinctorius) من أهم مصادر اللون الوردي والأحمر، وتُستخدم بكثرة في لوحات المحكمة و”الأوكييو إي” اليابانية (المطبوعات الخشبية). أدرك الفنانون اليابانيون قصر عمر هذه الألوان، واستغلوا هذه الحقيقة لتوافق الفلسفة الشرقية حول طبيعة الحياة الزائلة، حيث تعتبر نعومة الألوان الباهتة حالياً دليلاً على مرور الزمن لا فشلاً فنياً.
ثالثًا: الفن الإسلامي والمخطوطات المضيئة: في المخطوطات الإسلامية، لعبت صبغات الأزهار دورًا تكميليًا دقيقًا. استُخدمت بتلات الورد أحيانًا لتحضير أحبار وردية باهتة تملأ الفراغات أو الإطارات في المخطوطات الفارسية. كانت هذه الطبقات الرقيقة تنسجم مع أوراق الذهب والأصباغ المعدنية لتمنح الصفحة إحساسًا بالدفء والإشراق، وبسبب سرعة بهتانها، كانت تُعزز من خصوصية المخطوطة وقيمتها.
العودة المعاصرة: الاحتفاء بعدم الاستقرار
بدأت صبغات الأزهار بالتراجع في أوروبا خلال عصر النهضة مع توافر أصباغ أكثر ديمومة. ومع ذلك، تشهد الممارسة الفنية الحديثة والمعاصرة عودة متعمدة لاستخدام هذه الألوان، لا سيما كشكل من أشكال الاحتجاج على الصناعة والاستمرارية المفرطة.
اليوم، يقوم فنانون معاصرون بطحن واستخلاص الألوان من البتلات لإدماجها في أعمال تركيبية أو عروض فنية. هذا الاتجاه يسلط الضوء على عدم استقرار اللون كقيمة فنية بحد ذاتها، حيث يتحول الزمن والضوء إلى شريكان في صنع العمل الفني بدلاً من أن يكونا عدوين له. إن استخدام هذه الألوان يذكرنا بأن فن التلوين كان في جوهره حوارًا وتفاوضًا مع الطبيعة، وليس سيطرة عليها.